الطفلان العراقيان.. وأحاديث المصارحة والتحذيرات.. بقلم: عبدالمحسن سلامة

فى المساء أصابنى الأرق الشديد بعد أن تابعت قصة الطفلين العراقيين عباس وقيس فى وسائل الإعلام العالمية بعد أن فقدا والدهما، وتركتهما أمهما فى مخيم للاجئين بسوريا، ولم تستطع الوصول إليهما مرة أخري، بعد أن فرت بهما إلى مخيم الهول بمحافظة الحسكة السورية الواقعة فى شمال شرقى سوريا.

مات والدهما وتركتهما أمهما ليبقيا وحيدين فى المخيم ويصاب الأخ الأكبر عباس بالشلل، ويصبح شقيقه الأصغر قيس ذو الثمانية أعوام هو المسئول عن شقيقه الأكبر البالغ من العمر 14 عامًا، واستمرت مأساتهما منذ عام 2014 حتى تم بث مقطع فيديو لهما يستغيثان من سوء أوضاعهما ويناشدان المسئولين العراقيين بالسعى من أجل إعادتهما مرة أخرى إلى بلدهما .

بعد جهد رهيب، وبعد تفاعل وسائل الإعلام المحلية والعالمية مع قصة الشقيقين العراقيين المأساوية تحركت وزارة الخارجية العراقية، وبمساعدة المنظمات الدولية المعنية بشئون اللاجئين نجحت فى الوصول إلى الطفلين ونقلهما من سوريا إلى تركيا، ومن هناك تم نقلهما جوًّا إلى بغداد.

هذه الأسرة التعيسة التى تفككت أوصالها بعد أن فقدت الأب، وفشلت الأم فى العودة إليهما، وتكتمل المأساة بإصابة أحدهما بالشلل ليصبح الطفل الصغير ذو الثمانية أعوام هو المسئول عن شقيقه الأكبر، حتى علت صرخاتهما المكتومة وأنين آلامهما لتصل إلى حكومة العراق، والمجتمع الدولى كله، من أجل إنقاذ حطام أسرة كانت سعيدة وآمنة فى وقت من الأوقات، حتى اجتاح تنظيم «داعش» الإرهابى الأراضى العراقية، واستطاع السيطرة على أكثر من ثلث مساحة العراق فى عام 2014، لتتحول تلك المناطق إلى ساحة حرب طاحنة على مدى أكثر من أربع سنوات، نزح فيها أكثر من 5 ملايين شخص من مناطقهم يحمل كل منهم قصة مأساوية مروعة ربما تقل أو تزيد على مأساة «عباس وقيس» لكنهم جميعا عاشوا كابوسا مخيفا مازالت آثاره ممتدة باقية مع العديد منهم، حتى الآن لعدم قدرتهم على العودة إلى منازلهم.

ظللت متابعًا على مدى ساعات طويلة فى وسائل الإعلام العالمية قصة الطفلين حتى وصولهما إلى بغداد، وتسليمهما إلى إحدى دور رعاية الأيتام بحضور ممثلى الجهات المعنية. فى الصباح حملت أوراقى وذهبت إلى جلسات منتدى شباب العالم الذى عقد فى شرم الشيخ على مدى أربعة أيام فى الأسبوع الماضي، وفى أثناء جلسة «ما بعد الحروب والنزاعات: آليات بناء المجتمعات والدول»، تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى بصراحة شديدة وكأنه يشخص الأوضاع المأساوية والإنسانية للمواطنين فى مناطق النزاعات بعد أن انهارت دولهم مستشهدًا بمصير دول إقليمية عدة مثل: سوريا والعراق وليبيا والصومال وأفغانستان، ومحذرًا من فكرة الانتحار القومى التى أصابت بعض الدول وخطورة امتدادها إلى دول أخري، مؤكدًا أن «الدولة إللى بتروح مبترجعش»، لافتًا نظر الحاضرين وغيرهم خاصة الشباب إلى الدول التى تعرضت للتدمير بعد أن ذهبت إلى طريق الفتن والخراب بلا عودة، مطالبًا فى الوقت نفسه القيادات فى الدول التى انهارت ووقعت فى بئر الفوضى بضرورة أن يكونوا أكثر إنصافا وموضوعية، وعدم المغالاة فى مطالبهم من أجل شعوبهم ومن أجل عودة دولهم مرة أخري، خاصة فى سوريا وليبيا وأفغانستان والصومال.

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمات الرئيس جاءت صريحة وواضحة ومباشرة من قائد عاش أصعب الفترات، وهو يشاهد النفق المظلم الذى كان معدا لسقوط مصر لولا عناية الله أولا، ويقظة الجيش والشعب ثانيا، لتنجو مصر من مصير الدول الفاشلة، وينجو أطفال الشعب المصرى من مصير الطفلين العراقيين (عباس وقيس).

تحذيرات الرئيس لم تكن خاصة بمصر فقط لكنها كانت موجهة لكل شباب المنطقة الحاضرين للمؤتمر، ولكل المواطنين فى المنطقة العربية، من أجل الحفاظ على دولهم، وعدم الاندفاع وراء الغربان السوداء التى تريد استمرار مسلسل الخراب والدمار لكل دول المنطقة بلا استثناء.

فتح الرئيس قلبه وعقله ووجدانه لشباب العالم كله، وجلس بينهم كواحد منهم.. يسألونه فى أدق التفاصيل والسياسات والقرارات المصيرية، ليجيب بكل صراحة وتلقائية وسعة صدر فى حوار مفتوح أمام أعين الدنيا كلها.

تحدث كأب إلى الشاب العراقى الذى كان مشاركا فى المؤتمر، وسأله عن عمره، ليجيب الشاب أنه يبلغ من العمر (19عاما)، ليرد عليه «أنت ياعبد الله ماشفتش العراق التى كان يشار لها بالبنان».. دولة قوية قادرة اقتصاديًا وسياسيًّا وعسكريًّا ذات تأثير كبير فى محيطها.

منبها الشاب العراقي، وغيره من الشباب إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر فى التعامل مع قضايا بلادهم، بعيداً عن الانفعالات غير المدروسة، والمغامرات التى قد تنجح وقد لا تنجح، من أجل الحفاظ على بلادهم ومستقبلها.

المصارحة والتلقائية والشفافية، لغة دائمة يتحدث بها الرئيس السيسى حتى إن كانت صادمة أحيانا، لكنها الحقيقة التى لابد منها الآن، لكى تخرج دول المنطقة من دوامة الأزمات التى تعيش فيها منذ اندلاع الربيع العربي، الذى تحول إلى خريف ساخن، وفوضى وأوقع بالعديد من الدول فى بئر الاقتتال الأهلى والحروب والنزاعات، مثلما يحدث فى سوريا واليمن وليبيا حتى الآن، وللأسف ليس هناك أفق يمكن من خلاله وضع سيناريوهات الخروج من المأزق إلى بر الأمان.

ملايين الضحايا من القتلى والمشردين وقعوا فريسة للفوضى والدمار فى العراق والصومال وأفغانستان وليبيا واليمن، ولاتزال ماكينة القتل والخراب تحصد المزيد والمزيد من الأرواح والضحايا كل يوم بلا هوادة أو رحمة، وجنرالات الحرب، وسماسرة القتل مستمرون فى صب الزيت على النار، فى إطار خطة جهنمية وضعتها أجهزة مخابرات عالمية، للعصف بالمنطقة وأمنها وأمانها.

نجحت مصر فى صد المخطط الشيطانى وفضحه وكشفه لأن مصر كانت (درة تاج المخطط الشيطاني)، وبانهيارها لا قدر الله كانت ستنهار كل الدول العربية بلا استثناء من المحيط إلى الخليج.

فى اعتقادي، أنه يكفى لمنتدى شباب العالم فى نسخته الثانية أنه نجح فى تسليط الضوء على المخاطر التى تهدد كيانات الدول، ووضع النقاط على الحروف أمام شباب المنطقة والعالم كله لخطورة التهديدات التى تهدد بلادهم ومستقبلهم، ومن هنا جاءت أهمية التوصية الرابعة للمنتدى بتبنى الدولة المصرية بجميع مؤسساتها إقرار مبدأ الحفاظ على الحياة، ومكافحة الإرهاب، كحق أساسى من حقوق الانسان، وتشكيل مجموعة عمل مشتركة من الشباب المشاركين فى المنتدى من كل دول العالم، ومؤسسات الدولة المصرية، لتقديم الدعم المادى والمعنوى لضحايا الإرهاب فى العالم.

أيضا جاءت باقى التوصيات الأخري، لتسهم فى دعم قدرات الشباب وتأهيلهم فى كل المجالات سواء فى المجالات السياسية أو الاقتصادية أو العلمية، والاستجابة لرغبة الشباب فى إعداد تصور جديد لقانون الجمعيات الأهلية، وإجراء حوار مجتمعى يشارك فيه مجموعات شبابية.

أظن أن منتدى الشباب نجح فى أن يتحول إلى منصة حوار صريحة وصادقة بين الشباب والمسئولين من مختلف دول العالم، بعيدا عن الخطوط الحمراء والمحاذير، والأهم أنه يعيد رسم خريطة المنطقة مرة أخري، لتكون مصدرًا للسلام والتعايش مع الآخرين، بعيدا عن أفكار التطرف والإرهاب، وصراع الحضارات التى سيطرت على المنطقة خلال الفترة الأخيرة، التى كانت تستهدف العصف بالمنطقة كلها، وتحويلها إلى مناطق للاجئين على غرار «عباس وقيس».

المهم الآن، أن تتركز كل الجهود على بناء المستقبل والحفاظ على كيانات الدول التى نجت من المأزق، وبذل كل الجهود لانتشال من وقعوا فى فخ الفوضى والانهيار.

Back to Top